صراع الأجنحة في الجزائر وتأثيراته على السياسة الخارجية

يشهد المشهد السياسي في الجزائر منذ سنوات صراعات داخلية مطبوعة بتنافس الأجنحة داخل أجهزة الدولة، بين المؤسسة العسكرية، والأجنحة المدنية داخل الإدارة، ودوائر القرار السياسي.
لا يقتصر هذا الصراع على نزاعات على مواقع السلطة بل يتسع ليشمل رؤية الدولة تجاه ملفات إقليمية حساسة، ما انعكس بوضوح على علاقات الجزائر الخارجية، من المغرب إلى مالي وليبيا، وصولًا إلى علاقاتها مع دول أوربية وخليجية كفرنسا والإمارات.

جذور الصراع وتأثيره الداخلي

أولا، تعود جذور التوتر إلى تحوّلات ما بعد الحراك عام 2019، حيث اختلفت التقديرات بشأن آليات الانتقال وإدارة الفاعلين السياسيين. المؤسسة العسكرية، التي حافظت على نفوذها التقليدي، سعت إلى ضبط المشهد الأمني والإقليمي، فيما دفعت بعض الأجنحة المدنية باتجاه تعزيز المؤسسات المدنية وفتحات سياسية أوسع. هذا الانقسام أفضى إلى سياسات خارجية تبدو أحيانًا متقلبة أو متباينة، بحسب الجناح الذي يسيطر على قرار معيّن في لحظة زمنية معينة.
ثانيًا، ظلّ ملف العلاقات مع المغرب مرآةً لصراعات الداخل، فتارة تُظهر الجزائر تشدّدًا دبلوماسيًا بدعم جبهة “بوليساريو” ورفض أي محاولة لتطبيع العلاقات، وتارةً تظهر إشارات تفاهم أو هدوء نسبي عندما ترجح مصلحة أمنية أو اقتصادية. يعكس هذا التذبذب محاولة الأجنحة المتنافسة استخدام ملف الصحراء كوسيلة ضغط داخلي وإقليمي، مما يجعل العلاقات الثنائية رهينة بموازين داخلية أكثر من كونها نابعة من استراتيجية طويلة الأمد.
ثالثًا، لعبت الجزائر دور الوسيط في ملف مالي، مستغلة قربها الجغرافي ومخاوفها الأمنية من انتشار الإرهاب. لكن الانقسامات الداخلية أثّرت على اتساق سياساتها تجاه باماكو، فبينما تبنت دوائر سياسية نهجًا تشاوريًا ودبلوماسيًا، سعت أجنحة أخرى إلى مواقف أكثر حزمًا أو تعاونًا أمنياً محدودًا مع جهات خارجية. هذا التعدد في التوجهات حدّ من قدرة الجزائر على تقديم مبادرات طويلة المدى ومستقرة في الساحل الغربي.
رابعًا، في ملف ليبيا، عكست مواقف الجزائر حرصًا على وحدة وسيادة ليبيا ورفضًا للتدخل الخارجي، مع دعم متكرر لمساعي التسوية. غير أن ظهور شخصيات وعلاقات بين أطراف داخلية وخارجية مثل المشير خلفية حفتر ومصادر دعم إقليمية خلقت فُرَصًا للاستخدام السياسي للملف داخل الجزائر، حعل دوائر أمنية في بعض الفترات تتبنى مقاربات تحفظية خشية انتقال عدم الاستقرار، بينما انخرطت تيارات سياسية في دعوات للحوار والمساهمة في الحل السياسي.
خامسًا تتسم علاقة الجزائر بفرنسا بتعقيدات تاريخية ومصالح استراتيجية مشتركة، لكن قضايا مثل الهجرة، التعاون الأمني، وتأثير الجماعات الخارجية ألقت بظلالها على التنسيق بين البلدين. أما الإمارات فكانت فاعلًا خليجيًا يسعى لتوسيع نفوذه في المنطقة؛ تباينت مواقف الجزائر بين رفض التدخل في الشؤون الداخلية وضرورة التعاون الاقتصادي، ما يعكس بدوره تمازجًا بين أولويات الأجنحة المختلفة.
لم يظل صراع الأجنحة في الجزائر ظاهرة داخلية فحسب، بل تحول إلى عامل مؤثر في رسم سياسات خارجية متقلبة أحيانًا. لعلّ الثبات في السياسة الخارجية يتطلب من الأطراف الداخلية التوافق على خطوط حمر استراتيجية تُبنى عليها علاقات الدولة مع جيرانها وشركائها. وفي غياب هذا التوافق، ستبقى الجزائر في موقع يتأرجح بين دور الوسيط الإقليمي المدافع عن السيادة الوطنية، وموقع المتلقي لتأثيرات إقليمية ودولية تعيد تشكيل توازنات شمال إفريقيا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *